• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

فقه العبادة.. لا علم العبادة

فقه العبادة.. لا علم العبادة

◄لكي نسير على هدى، يجب علينا أن نعرف هدفنا، إنّ هدفنا من هذا التعليم والتفقيه أن نحبب رب الناس إلى الناس، حتى يعبدوه عبادة حب وشكر وإقبال، لا عبادة مراسم وقوالب وأشكال.. أن نوجههم إلى روح العبادة لا صورة العبادة فحسب. وبعبارة أخرى: أن يكون همنا "فقه" العبادة لا "علم" العبادة. والفقه معنى فوق العلم، والتفقيه أخص من التعليم. العلم يتعلق بالعقول والرؤوس، والفقه يتجاوز ذلك إلى القلوب والنفوس. والرسول (ص) إنما ناط الخير بالفقه في الدين لا بمجرد العلم الظاهري الجاف به. قال: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين".

غير أنّ مفهوم "الفقه" هذا أصابه من التغيير ما جعل مؤاده مجرد العلم الجاف بتقصى التفريعات الظاهرة، والأحكام الخلافية، وكثير من الفروض والمسائل الدقيقة التي تعد من الأغاليط أو من التنطع. وقد ذكر الإمام الغزالي ما بُدِّلَ من الألفاظ الإسلامية، وما حُرِّفَ من الأسامي المحمودة، ونُقِلَ بالأغراض الفاسدة إلى معانٍ غير ما أراده السلف الصالح والقرن الأوّل وهي خمسة ألفاظ. أوّلها: الفقه.. فقد تصرفوا فيه بالتخصيص لا بالنقل والتحويل، إذ خصصوه بمعرفة الفروع الغريبة.. والوقوف على دقائق عللها، واستكثار الكلام فيها، وحفظ المقالات المتعلقة بها، فمن كان أشد تعمقاً فيها، وأكثر اشتغالاً بها، يقال هو الأفقه. ولقد كان اسم الفقه في العصر الأوّل مطلقاً على علم طريق الآخرة ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات الأعمال، وقوة الإحاطة بحقارة ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات الأعمال، وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا. وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة واستيلاء الخوف على القلب. يدلك عليه قوله عزّ وجلّ: (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) (التوبة/ 122)، وما يحصل به الإنذار والتخويف هو هذا الفقه دون تفريعات الطلاق والعتاق واللعان والسلم والإجارة، فذلك لا يحصل به إنذار ولا تخويف، بل التجرد على الدوام يقسى القلب، وينزع الخشية منه، كما نشاهد الآن في المتجردين له. وقال تعالى: (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا) (الأعراف/ 179)، وأراد به معاني الإيمان.. ولعمري إنّ الفقه والفهم في اللغة اسمان بمعنى واحد، وإنما يتكلم في عادة الاستعمال قديماً وحديثاً، قال تعالى: (لأنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) (الحشر/ 13)، فأحال قلة خوفهم من الله واستعظامهم سطوة الخلق على قلة الفقه، فانظر إن كان ذلك نتيجة عدم الحفظ لتفريعات الفتاوى أو هو نتيجة عدم ما ذكرناه من العلوم.. وقال (ص): "ألا أنبئكم بالفقيه كلّ الفقيه؟ قالوا: بلى. قال: من لم يقنط عباد الله من رحمة الله ولم يؤمنهم من مكر الله، ولم يؤيسهم من روح الله، ولم يدع القرآن رغبة منه إلى ما سواه".. وقد سأل فرقد السبخي الحسن عن شيء فأجابه فقال: إنّ الفقهاء يخالفونك! فقال الحسن رحمه الله: ثكلتك أمك يا فريقد.. وهل رأيت فقيهاً بعينك؟! إنما الفقيه الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بدينه، المداوم على عبادة ربه، الورع، الكاف نفسه عن أعراض المسلمين، العفيف عن أموالهم، الناصح لجماعتهم. قال الغزالي: ولم يقل في جميع ذلك: الحفاظ لفروع الفتاوى. ولست أقول: إن اسم الفقه لم يكن متناولاً للفتاوى في الأحكام الظاهرة، ولكن كان بطريق العموم والشمول، أو بطريق الاستتباع فكان إطلاقهم له على علم الآخرة أكثر".

هذا ما ذكره الإمام الغزالي. وبهذا يتضح لنا أنّ الذي نريده بفقه العبادة إنما هو الفقه كما كان في العصر الأوّل، هو الفقه الذي يرقق القلوب، ويطهر النفوس، ويذكر بالآخرة، ويضيء الطريق إلى الله.

فقه الصلاة مثلاً، هو إدراك سرها، والنفوذ إلى لبها وروحها، وعلم الصلاة هو المعرفة الجافة بشرائطها وأركانها وواجباتها ومستحباتها.

فقه الصلاة يتمثل في مثل ما روى عن حاتم الأصم وقد سئل: كيف تقيم صلاتك؟ فقال: أتوضأ فأسبغ الوضوء، ثمّ آتى موضع الصلاة بسكينة ووقار. فأكبر تكبيراً بتوقير، وأقرأ قراءة بترتيل، وأركع ركوعاً بتخشع، وأسجد سجوداً بتذلل. وأتمثل الجنة عن يميني، والنار عن شمالي، والصراط تحت قدمي، والكعبة بين حاجبي، وملك الموت على رأسي، وذنوبي محيطة بي، وعين الله ناظرة إليّ، وأعتبرها آخر صلاة لي. وأتبعها الإخلاص ما استطعت. ثمّ أسلم وأنا لا أدري: أيقبلها الله مني أم يردها عليَّ؟!

وسبيلنا إلى ذلك ألا نعرض العبادات جافة جامدة كأنها نظريات الهندسة أو قوانين الكيمياء. وإنما نعرضها شفافة مشرقة، موصولة بكلمات الله ورسوله (ص)، وسير الصالحين من المؤمنين، وأن نبين ما اشتملت عليه من حكم وأسرار بقدر طاقتنا، من غير أن نغلو في تكلف الحكم، وتطلّب الأسرار، ومن غير أن ننسى المقصد الأوّل من العبادات كلها وهو التذكير بحقّ الربوبية على العبودية.

ولهذا نرى أنّ أخذ العبادات من كتب فقه الحديث أولى وأعون على هذه الغاية من كتب الفقه المذهبي الجافة، وبخاصة تلك التي تهتم بكثرة الصور والفروع، ولا تهتم بالأدلة من الكتاب والسنة. فهذا الفقه الجاف لا يرطب قلباً، ولا يغذي روحاً، ولا يثمر خشية.

 

المصدر: كتاب العبادة في الإسلام

ارسال التعليق

Top